ملخص الخطبة
1- أهمية الأسواق لحياة الناس 2- إباحة الاشتغال بالتجارة، وكيف كان حال بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مع هذا. 3- مراقبة النبي صلى الله عليه وسلم للسوق وتعهده له 4- توجيهات وآداب لمن يرتادون السوق 5- حال النساء عند دخول الأسواق وماالذي يجب على أولياء الأمور
الخطبة الأولى
أما بعد: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: ((أحب البلاد إلى الله مساجدها، وأبغض البلاد إلى الله أسواقها)).
إن الحديث عن السوق حديث طويل ،لكثرة مسائله وجهل الناس بمعظمها ،ولحاجة الناس اليومية ،من دخولهم إلى الأسواق لبيع أو شراء أو نحوه ،فهذه فاتحة الحديث عن الأسواق:
السوق أيها الأحبة ،قديم قدم هذا الإنسان ،فقد وجدت منذ كثر الناس على سطح المعمورة ،وازدحمت وضاقت بهم البلدان.
وقد كان للعرب في الجاهلية أسواقاً يتبايعون فيها ،روى البخاري في صحيحه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كانت عكاظ ومَجّنَّة وذو المجاز أسواقاً في الجاهلية ،فلما كان الإسلام فكأنهم تأثموا فيه ،فنزل قول الله تعالى: ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلاً من ربكم .
وكان بالمدينة في الجاهلية عدة أسواق متنوعة الأغراض ،منها سوق حُباشة ،وهذه السوق كانت مخصوصة لبيع العبيد ،وسوق بالجسر في بني قينقاع وغيرها من الأسواق.
فلما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ،حدد مكاناً معيناً للسوق في موضع بقيع الزبير ،وضرب فيه قبة، وقال لأصحابه: هذا سوقكم.
ولكنه عليه الصلاة والسلام ،رأى غيره أنفع منه وأكثر تحقيقاً لمصالح المسلمين ،فعدل عنه ،وذهب إلى مكان آخر يسمى حَرُّ فسيح ،وخطه برجله وقال: ((هذا سوقكم فلا يُنتقصن ولا يُضربن عليه خراج)).
ومن معجزاته صلى الله عليه وسلم ،مما أعلمه ربه من علم الغيب ،أنه حذر بعض أصحابه من بعض الأسواق ،ففي الحديث الصحيح أنه قال لأنس: ((يا أنس إن الناس يُمصرون أمصاراً ،أي إن الناس سينشئون في المستقبل مدناً يسكنون فيها – وإن مصراً منها يقال لها البصرة ،فإن مررت بها أو دخلتها ،فإياك وسباخها ،وكُلاّءها – وهو شاطئ النهر – وسوقها ،وباب أمرائها، وعليك بضواحيها ،فإنه يكون بها خسف وقذف ورجف ،وقوم يبيتون يصبحون قردة وخنازير)) وبعض هذا الحديث لم يتحقق بعد. والله المستعان.
وعندما جاء الإسلام ،أولى للسوق اهتماماً خاصاً فقد دعى هذا الدين إلى العمل بالتجارة ،واكتساب المال عن طريقها ،قال الله تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم ،وقال عز وجل: رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة .
أيها المسلمون: لقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يرتاد الأسواق كسباً للرزق وطلباً للمعاش ،حتى عاب المشركون عليه ذلك بقولهم ،كما حكى ذلك القرآن وقالوا ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق .
هذا وقد اقتدى به صلى الله عليه وسلم أصحابه ،فكانوا يرتادون الأسواق ،ويتجرّون فيها بأموالهم ،ولا يرون في ذلك بأساً.
كان أبو بكر الصديق رضي الله عنه بزازاً ،يتاجر بالبز ،وكان يغدو إلى السوق فيبيع ويبتاع ،إلى أن فُرض له عطاءً بعد أن تولى الخلافة.
وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه ،يعلل خفاء أحكام بعض المسائل الشرعية عليه بانشغاله بالصفق في الأسواق ،وحديث عمر في البخاري في كتاب البيوع ،باب الخروج في التجارة.
ثم هذا الصحابي المهاجر عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه يعرض عليه أخوه في الله سعد بن الربيع أن يشاطره ماله ،ويختار إحدى زوجتيه فيطلقها له ،فيلقى هذا الإيثار النبيل ،بعفاف نبيل ويقول عبد الرحمن لسعد: بارك الله لك في مالك وأهلك ،لا حاجة لي في ذلك ،وإنما دلني على السوق ،لأتجر فيها ،فدله سعد عليها فغدا إليها ،فأتى بأقط وسمن ،وباع واشترى حتى فتح الله عز وجل عليه.
أيها المسلمون: لقد حظي السوق في عهده صلى الله عليه وسلم باهتمامه ورعايته ،فتعهده بالإشراف والمراقبة ،ووضع له ضوابطاً ،وسن له آداباً ،وطهره من كثير من بيوع الجاهلية المشتملة على الغبن والغرر والغش والخداع والربا.
كما منع عليه الصلاة والسلام ،بيع المحرمات فيه ،ومنع: إنشاد الأشعار والتفاخر بالأحساب والأنساب فيه ،وقد داوم رسول الله صلى الله عليه وسلم على تفقد أحوال السوق بنفسه ،أو مع بعض أصحابه ،ومراقبة الأسعار ،ومنع أي احتكار أو استغلال قد يقع فيه.
روى مسلم في صحيحه ،عن أبي هريرة رضي الله عنه ،أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ،مرّ على صُبرة طعام فأدخل يده فيها فنالت أصابعه بللاً فقال: ((ما هذا يا صاحب الطعام؟فقال: أصابته السماء يا رسول الله ،قال: أفلا جعلته فوق الطعام كي يراه الناس ،من غشنا فليس منا)).
عباد الله: هذه خمسة توجيهات أو سمّها آداب متعلقة بالسوق ،أقدمها بين يديك لتأخذ بها ،وتراعيها عند دخولك وخروجك من السوق.
أولاً: إذا دخلت السوق ،فعليك بهذا الدعاء، وينبغي علينا جميعاً حفظه.قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من دخل السوق فقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد يحي ويميت ، وهو حي لا يموت بيده الخير، وهو على كل شيء قدير ،كتب الله له ألف ألف حسنة ، ومحا عنه ألف ألف سيئة ، وبنى له بيتاً في الجنة)) حديث حسن رواه الترمذي.
إن السوق في الغالب ،مكان غفلة عن ذكر الله ،فهو موضع سلطنة الشيطان ،ومجمع جنوده ،لهذا شُرع للمسلم الذكر ليقاوم غلبة الشيطان.
ثانياً: لا تكن سخاباً بالأسواق ،والسخب هو رفع الصوت بالخصام واللجاج ،ورد في وصف النبي صلى الله عليه وسلم: ((أنه ليس بفظ ولا غليظ ولا سخاب بالأسواق ،ولا يدفع بالسيئة السيئة ،ولكن يعفو ويغفر)) والحديث أخرجه البخاري في صحيحه. السخب مذموم في ذاته ،فكيف إذا كان في الأسواق ،التي هي مجمع الناس من كل جنس ،إنه لا يليق بالرجل العاقل الرزين أن يكون سخاباً يستفزه أقل إنسان ،من أجل ريالات معدودات ،فالعقل العقل أخي المسلم.
ثالثاً: قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم .
إن كثرة تردد العبد على الأسواق ،يعرضه لرؤية ما لا يرضي الله عز وجل ،فإن الأسواق قل ما تسلم من مناظر محرمة ،خصوصاً ما نراه من تسكع نساء هذا الزمان في الأسواق والتبرج وإظهار الزينة بدون حياء ،فعليك أخي المسلم إذا دخلت السوق أن تغض بصرك بقدر ما تستطيع، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها. إن الله جل وتعالى جعل العين مرآة القلب. فإذا غض العبد بصره ،غضّ القلب شهوته وإرادته.وإذا أطلق العبد بصره ،أطلق القلب شهوته وإرادته. أخرج البخاري في صحيحه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الله عز وجل كتب على ابن آدم حظه من الزنى أدرك ذلك لا محالة ،فالعين تزني وزناها النظر ،واللسان يزني وزناه النطق ،والرجل تزني وزناها الخطى ،واليد تزني وزناها البطش ،والقلب يهوي ويتمنى، والفرج يصدق ذلك أو يكذبه)) فبدأ بزنى العين ،لأنه أصل زنى اليد والرجل والقلب والفرج.وهذا الحديث من أبين الأشياء على أن العين تعصي بالنظر وأن ذلك زناها ،لأنها تستمتع به. ((يا علي لا تتبع النظرة النظرة فإن لك الأولى وليست لك الثانية)) قالها النبي صلى الله عليه وسلم لعلي رضي الله عنه في حديث رواه الإمام أحمد.
رابعاً: كثرة الحلف.
روى مسلم في صحيحه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم ،المسبل إزاره ،والمنّان ،والمنفق سلعته بالحلف الكاذب)).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الحلف منفقة للسلعة ،ممحقة للكسب)) متفق عليه. والمعنى أن البائع قد يحلف للمشتري أنه اشتراها بكذا وكذا ،وقد يخرج له فواتير في ذلك ،فيصدق المشتري ،ويأخذها بزيادة على قيمتها ،والبائع كذاب ،وإنما حلف طمعاً في الزيادة ،فهذا يعاقب بمحق البركة ،فيدخل عليه من النقص أعظم من تلك الزيادة التي أخذها من حيث لا يحتسب ،بسبب حلفه.
اعلم أخي التاجر أن ما عند الله لا ينال إلا بطاعته ،وإن تزخرفت الدنيا للعاصي ،فإن عاقبتها اضمحلال وذهاب وعقاب ،روى البخاري في صحيحه عن عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه أن رجلاً أقام سلعته وهو في السوق، فحلف بالله: لقد أُعطى بها ما لم يعط ليوقع فيها رجلاً من المسلمين ،فنزل قول الله تعالى: إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمناً قليلاً أولئك لا خلاق لهم في الآخرة ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم .
نفعني الله وإياكم . .